الحياة الزوجية في سفر نشيد الإنشاد
صفحة 1 من اصل 1
الحياة الزوجية في سفر نشيد الإنشاد
الحياة الزوجية في سفر نشيد الإنشاد
بدء الحياة الزوجية
ما أن دعت الكنيسة عريسها للنزول إليها ليأكل من جنته التي في داخلها , المملوءة من أغراس روحه القدوس و المرتوبه من ينبوع المعمودية المقدس , حتى استجاب لدعوتها فورا بغير تردد , قائلا : " قد نزلت إلي جنتي يا أختي العروس قطفت مري مع أطايبي , أكلت شهدي (خبزي ) 143 مع عسلي , شربت خمري مع لبني ,كلوا أيها الأصحاب , اشربوا , واسكروا أيها الأحباء "
1 ـ لقد أسرع بالنزول إلي جنته بغير تردد , لآن الدعوة هنا جاءت مطابقة لمشيئته , فوجدت استجابة سريعة في عيني الله . لقد دعته للنزول إلي جنته , التي يشتهي أن ينزل إليها علي الدوام . فإن كان الرب منذ الأزل قد أعد أحداث الخلاص حتى صارت موضوع لذته و سروره بالرغم مما حملته من خزي و ألام و موت كقول الرسول بولس : " من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب مستهينا بالخزي " ( عب 12 : 3 ) فإن عروسه تدعوه أن ينزل إلي ذات البستان الذي دخله ليلة ألامه , و إلي ذاك الذي فيه ضع جسده في القبر . تدعوه أن يراها و هي تكمل نقائص شدائده في جسمها ( كو 1 : 24 ) أي تشاركه ألامه و صلبه ودفنه , لهذا لا يتردد الرب في قوله : " قطفت مري مع أطيابي " .... وكان أحداث الخلاص صارت حية و ممتدة في حياة أولاده !
و يري الأب روفينوس [144] أن الجنة هنا ليست إلا الموضع الذي صلب فيه الرب , حيث يعلن الحكيم أن العريس يشرب الخمر ممتزجا بالمر , الذي قدم للرب في لحظات صلبه .
لقد قبل الرب الدعوة فورا إذ وجد كل ما للعريس إنما يخصه , فلقبها هو جنته , وهي أخته و عروسه , وفي داخلها وجد مر و أطيابه و شهده و عسله وخمره و لبنه . وجد ثمار روحه القدوس في داخلها فأسرع إليها , ولم يجد في داخلها أجرة إثم أو أجرة زانية أو غير ذلك من الأمور التي لا يقبلها إذ يقول " لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلي بيت الرب ألهك عن نذور ما لأنها كليهما رجس لدي الرب إلهك " ( تث 23 : 18 ) قبل أن يشرح القديس غريغوريوس أسقف نبصص ما بداخل الجنة , تساءل :
" من هو هذا الذي تدعوه للوليمة التي أعدتها "
إنه ذاك الذي منه و به كل شيء كائن ( 1 كو 1 : 17 ) الذي يعطي عونا لكل أحد في حين حسن ( لو 12: 43 ) , لذي يفتح يده فيشبع كل حي بالبركة ( مز 144 : 16 ) , الذي ينزل بكونه الخبز السماوي ( يو 6 : 14 ) واهبا الحياة للعالم , يسكب من عنده وحده حياة علي كل الخليقة .
هذا هو الذي أعدت له العروس مائدتها , أما المائدة فهي جنة مغروسة أشجار حية , و أما الأشجار فهي نحن و الثمر الذي نقدمه هو نفوسنا . وذلك كقول عندما أخذ كمال ناسوتيتنا : طعامي أن أعمل مشيئة أبي ( يو 4 : 34 ) . أما غاية إرادته الإلهية فواضحة , إذ يريد أن الجميع يخلصون و إلي معرفة الحق يقبلون ( 1 تي 2 : 4 )
إذن الطعام المعد هو خلاصنا و الثمر هو إرادتنا الحرة التي تقدم لله " نفوسنا" كأنها ثمر يجني من الغصن .
أما العبارة " لينزل حبيبي " [1 ] فهي مثابة طلب في تعبيره يماثل الصلاة : " ليتقدس أسمك " و " لتكن مشيئتك " . فكما أن تكوين هاتين العبارتين يحمل صلاة هكذا تصلي العروس قائلة : " لينزل ( خليلي ) معلنة لله فيض ثمر كمالها . نزوله يستلزم عمل محبته الإلهية , إذ لا نقدر نحن أن نرتفع إلي الغلي ما لم يقف الرب عند المتواضعين و يرفع الودعاء ( مز 146 , 147 :6 )
فلكي ترتفع النفس إلي السماء تطلب عون الله العالي متوسلة إليه أن ينزل من عظمته , و يتحد بنا هنا نحن الذين أسفل .
لقد جاءت الإجابة خلال النبي هكذا : " حينئذ تدعو ... فيقول هأنذا " ( إش 58 : 9 ) بل و قبلما ترفع العروس صلاتها يسمع طلبتها و يصغي إلي استعداد قلبها ( مز 10 : 17 ) الترجمة السبعينية .
إنه يأتي إلي جنته ... و يقطف أطيابها المملوءة من ثمر فضائلها . عندئذ يتحدث عن تمتعه بالوليمة و تلذذه بها قائلا : لعروسه : " قد نزلت إلي جنتي يا أختي العروس " ...
القديس غريغوريوس أسقف نيصص [ 145 ]
إنه ينزل غلي القلب و يسكن فيه و يستريح , و يقطف مره مع أطيابه ... أي يجني ثمار الصليب ( المر ) مع بركات قبره المقدس ( الأطياب ) يري كأس مرنا إنما هو كأسه , و الأطياب التي نكفن نحن بها إنما هي أطياب تكفينه .... يرانا حاملين صليبه و مدفونين معه عن العالم .
في داخلنا يأكل شهده و عسله و وكأنه قد دخل أرض الموعد التي تفيض لبنا و عسلا . يأكل ذات النوعين من الطعام " الشهد و العسل " اللذين أكل منها مع تلاميذه بعد قيامته مبرهنا بطرق كثيرة أنه حي قائم من الأموات يبقي عاملا وسط كنيسته .
يجد كل ما في قلبنا حلو و شهي كالشهد و العسل .
يشرب أيضا خمره أي حبه الذي سكبه فينا بروحه القدوس , مع لبنه غير الغاش أي النقاوة و الطهارة ....
عندئذ يدعو أصحابة و أحباءه أن يدخلوا معه جنته الخاصة لكي يشبعوا و يفرحوا بعروسه . فمن هم هؤلاء الأصحاب و الأحباء ؟ إنهم السمائيون الذين يفرحون بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة و تسعين بارا لا يحتاجون إلي توبة ( لو 15 : 7 ) هؤلاء يدخلون مع الرب القلب لا ليملكون بل كجند الملك السماوي , أصدقاء العريس الذي يقف و يسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس " ( يو 3 : 29 )
فيما يلي مقتطفات من أقوال الآباء عن هؤلاء الأصدقاء و عملهم في القلب :
القلب هو قصير المسيح , فيه يدخل الملك لكي يستريح , ومعه الملائكة و أرواح القديسين , هناك يقطن و يتمشى وفي داخله يقيم مملكته !
القديس مقاريوس الكبير [ 146 ]
*إنه لا يقف بمفرده بل يذهب قدامه الملائكة قائلين : " ارفعوا أليها الرؤساء أبوابكم " أية أبواب هذه ؟ تلك التي يترنم بها المرتل في موضع آخر قائلا : " افتحوا لي أبواب البر " ( مز 19 : 1 )
إذن افتحوا أبوابكم للمسيح كي يدخل فيكم , افتحوا أبواب الطهارة , أبواب الشجاعة , أبواب الحكمة . صدقوا رسالة الملائكة : ارفعوا أبوابكم الدهرية ليدخل ملك المجد , رب الصباؤوت ( الجنود )
القديس أمبروسيوس [ 147 ]
إذن لنفتح القلب لله و ملائكته , ليكون في داخلنا فرح سماوي.
2 ـ ظلال في الحياة الزوجية " أنا نائمة و قلبي مستيقظ, صوت حبيبي ( قريبي ) قارعا
افتحي افتحي لي يا أختي يا حبيبتي حمامتي يا كاملتي لآن راسي امتلا من الطل , و قصصي من ندي الليل . قد خلعت توبي فكيف البسه ؟ قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما ؟ [ 2ـ 3 ]يالها من صورة دقيقة للمعاملات المتبادلة بين الله و الإنسان . فقد عاش الإنسان زمانا طويلا و هو مسترخي و مهملا خلاصه بالرغم من كل الإمكانيات التي قدمها له الله ليكون متيقظا . لقد أراد الله أن يجعله ابنا للنور و النهار , لكن الإنسان أصر أن يحول زمان غربته كله ليلا يقضيه نائما حتى و أن كان قلبه متيقظا .
لقد أعطى الله للبشرية الناموس الطبيعي ييقظ قلبهم حتى أنهم عذر لكنهم " لما عرفوا الله لم يمجده أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم و إظلم قلبهم الغبي . و بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء , و أبدلوا مجد و الزحافات " رو 1 : 21 ـ23 ) و أعطاهم الناموس المكتوب , لكنهم إذ إخطئوا في الناموس فبالناموس سقطوا تحت الدينونة . " لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " ( رو 2 : 13 ) فالناموس المقدس أو الوصية المقدسة و العادلة و الصالحة أعلنت لي الخطية و كشفتها فعاشت الخطية و مت أنا ( رو 7 )
وأرسل الله أنبياءه , لكن ماذا فعلت البشرية بهم ؟ يقول الرب نفسه : " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء و راجمة المرسلين إليها , كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا ؟!( مت 23 : 37 )و أخيرا " صوت حبيبي قارعا " .... نزل " كلمة الله " نفسه إلي الإنسان يقرع باب قلبه ... يقف أمام النفس يرجوها أن تفتح له . نزل شمس البر و دخل زماننا الذي جعلناه ليلا . لكي يضئ علينا نحن الجالسين في الظلمة و ظلال الموت , فنقوم من غفلتنا ! لعل الحديث هنا خاص بالنفس التي دعت المسيا عريسا لها , لكنها عادت فاسترخت في حبه . غلبها النوم و لم تقدر أن تسهر معه في ليلة ألامه , مع أن قلبها مسكن الروح القدس فيه حياة . يؤنبها ! لقد فترت في حبها له و لكت الله محب البشر يري قلبها متيقظا فلا يكف عن أن ينزل إلي بابها يدعوها : " افتحي افتحي لي يا أختي يا خليلتي , يا حمامتي , يا كاملتي " .....
صوت الحبيب هنا يعاتب في رققة فلا يخرج مشاعر القلب , بل يشجع عروسه فيدعوها أخته و خليلته و حمامته و كاملته ... مع أنها تغط في نومها ! لا ينتهرها ولا يوبخها بل يعطيها رجاء و يشجعها . أما تكراره السؤال " : افتحي , افتحي لي ..." فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية في العهدين . القديم و الجديد , فإن الله لم يتغير , ولا دعوته قد تغيرت غذ يطلب أن ينفتح له القلب و يقبله ..!
وفي تكرار الدعوة أيضا إعلان عن كمال حرية النفس , فهو الخالق و السيد و الملك لكنه لا يقتحم النفس اتقحاما , أنما يتوسل إليها أن تنفتح له ... ففي سفر الرؤيا نراه يقول " هأنذا واقف علي الباب و أقرع , إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه و أتعشى معه و هو معي " ( رؤ3 : 20 ) حتى عندما تقدم إلي تلاميذه ماشيا علي البحر وسط الهياج الشديد لم يقتحم سفينتهم بل يقول الإنجيلي : " فرضوا أن يقبلوه في السفينة " ( يو 6 : 20 ) لقد أستخدم القديس أثناسيوس الرسولي هذا الحديث الودي للسيد المسيح نحو النفس البشرية في كتابه " تاريخ الأريوسيين " كحجة ضد استخدامهم العنف قائلا [ 148 ] : [ إذ يأتي ( الرب ) لكل أحد لا يلزمه أن يفتح بالقوة , لكنه يقرع الباب قائلا : افتحي لي يا أختي يا عروسي " فإن فتح له دخل , وأن تأخر فارقه ولا يدخل . إنه يستخدم الإقناع و النصح عندما يكرز بالحق , ولا يستخدم السيوف و الجند . ولكن أي إقناع هذا حين يعم رعب الإمبراطور!؟ ]
إنه يقنعها أن تفتح له بالحب , فقد صار له أختا وهو أخوها البكر , يقدر أن يعينها . لقد صار " بكرا بين أخوة كثيرين " ( رو 8 : 39) إقتحم باب الموت و حطمه فصار باكورة الراقدين ( 1 كو 15 : 20 ) .... لتفتح قلبها لذاك الذي فتح لها باب الحياة !
يعود فيرجوها أن تفتح بحق الصداقة القوية بينهما إذ يدعوها " خليلته " وهذا هو اللقب الذي دعي به إبراهيم أب المؤمنين ( 2 أي 20 : 7 , إش 41 : 8 , مع 2 23 ) إن كان الله قد فتح أسرار قلبه لخليه إبراهيم , قائلا : " هل أخفي عن إبراهيم ما أنا أفعله ؟ ! " ( تك 18 : 17 ) .... فكم بالحري يليق بالمؤمن و قد صار خليلا لله أن يفتح قلبه بالكامل له .
إنه يجتذبها لفتح أبواب قلبها بدعوته إياها " حمامته " إذ حملت " الروح القدس " الذي نزل علي شكل حمامة في داخلها , فصار لها القدرة علي فتح قلبها .
و أخيرا يشجعها علي ذلك بكونها " الكاملة " التي بلا عيب , فلا تقدر أن تغلق الباب في وجهة
هكذا يتعامل الله معنا , فيوصينا لا خلال أوامر أو نواه بل بإعلان حبه و صداقته , و يوضح لنا مركزنا بالنسبة له , و يكشف لنا إمكانيات روحه القدوس العامل فينا و يشجعنا خلال ما بلغنا إليه !أخيرا يتوسل إليها بكونه " حامل الآلام و الأحزان " من أجلها , إذ يقول لها : " لأن راسي امتلا من الطل , و قصصي من ندي الليل " [2 ]
إن كنت قد جعلتى زمانك ليلا بلا نهار , فصارت حياتك نوما , فإني بالحب أقتحم الزمن و أدخل إلي هذا الليل لا
لأنام بل لأحمل أهوال الليل عنك . بالفعل دخل السيد البستان ليلا و نام تلاميذه ولم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة ( مت 26 : 40 ) , أما هو فكان يدخل ألي العمق يتسلم كأس الألم حتى يشربه عن البشرية كلها .... في البستان كان " يحزن و يكتئب " ( مت 26 : 37 ) . كان يصرخ : نفسي حزينة جدا حتى الموت " , و كانت قطرات العرق تتصبب كالدم !!!
إنه يناجيها و يطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها في تلك الليلة العاصفة الممطرة , فقد امتلا رأسه من الطل و قصصه من ندي الليل... حمل الغضب الإلهي جسده وكما يقول النبي : أحزاننا حملها واوجاعنا تحملها و نحن حسبناه مصابا مضروبا من الله و مذلولا . وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل اثامنا وتأديب سلامنا عليه , و يحبره شفينا " ( إش 53 : 54 )
أما هي فقدمت اعتذارات بشرية غير لائقة , و تحدثت بغير اكتراث , فلم تدعوه ربها أو سيدها , ولا حتى نادته باسمه ولا ذكرت أحد القابه , بل قالت : " قد خلعت ثوبي فكيف البسه ؟! قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما ؟ "
[3 ] يالها من حجج واهية , تقدمها النفس في فتورها الروحي .... أعتذار لعدم فتح القلب لذاك الذي تعلم عنه تماما أنه يحبها . أنها صورة للإنسان و قد ضن علي نفسه أن يتحمل يسيرا من التعب لأجل تحقيق اللقاء مع السيد المسيح بالرغم من الكثير الذي دفعه السيد ..!
ما أسهل أن تصنع أذارا علي جسدها و تنتعل حذاء في قدميها ... لكنها انشغلت براحه جسدها عن التمتع بعريسها ... تشبهت بهؤلاء الذين قدموا أعذارا لكي لا يحضروا العرس ( مت 22 : 5 )
إن كانت قد خلعت ثوبها , فالسيد المسيح نفسه هو الثوب الأبدي الذي يسترنا , كقول الرسول بولس " قد لبستم المسيح " ( غل 3 : 27 )
هذه هي الحلة الأولي التي يقدمها الآب السماوي للابن الراجع إليه ( لو 15 : 22 ) . هذا هو الثوب المزخرف الذي يقدم من يد الله كقول زكريا النبي : " قد أذهبت عنك إثمك و ألبستك ثيابا مزخرفة " ( زك 3 : 4 )
إن كانت قد خلعت ثوبها , فهو يعطيها روحه لكي تلبسه , كسر حياة فيها إذ يؤكد علي تلاميذه : " ها أن أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا قوة من الأعالي " ( لو 24 : 49 ) إن كانت قد غسلت رجليها , فلتعلم أن القارع علي الباب هو سيدها الذي يتمنطق و يغسل أقدام عروسه ( يو 13 : 5 ) , هي غسلتهما بمياه برها الذاتي لكي يستريح ضميرها إلي حين , لكن إذ تمتد يدي الرب لغسل قدمتها يصير لها راحة في ملكوته الأبدي . لهذا قال الرب لبطرس الرسول " : إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب " ( يو 13 : 8 ) إذن فلنقم من سرير " الأنا " أو " الذات البشرية " و نتقدم لعريسنا الذي يسترنا بدمه و يلبسنا روحه القدوس , كما يغسل حياتنا الداخلية فنحيا مقدسين له .
إن كانت النفس لا تقدر أن تنصب إلي صوت من أحبها الذي أعلن بطرق متنوعة , فقد بقي أن يمد يده المجروحة علي الصليب إلي داخل ذهنها فتري آثار جراحات الحب التي احتملها من أجله , فتئن أحشاؤها عليه , قائلة : " حبيبي مد يده من الكوة , فأنت لا فتح لحبيبي , و بداي تقطران مرا , و أصابعي مر قاطر علي مقبض القفل [ 4 ـ 5 ]
إذ ضافت الدنيا في وجه التلاميذ بسبب الخوف أغلقوا الأبواب و أقاموا المتاريس و لم يعلموا أن الأبواب المغلقة لن تمنع الرب المجروح عنهم أن يدخل إليهم ليريهم يديه و جنبه فيفرحون ( يو 20 : 20 ) . لقد فتح كوة داخلية في قلوبهم ليتلامسوا مع جراحات محبته . هكذا يمد الرب يده المجروحة خلال الكوة ليكتشف مؤمنوه سر محبته فتئن أحشاؤهم عليه . أقول , أن هذه الكوة ليست إلاجنب الرب و جراحاته , من خلالها يمد الرب يد محبته فنكشف أحشاءه الداخلية الملتهبة حبا , فتئن أحشاؤنا أيضا ) ..... أنظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخري أحبنا أولا لذا نحن أيضا نحبه .
و للكوة ذكريات خاصة وردت في العهد القديم حمل بعضها جوانب رمزية لعمل الله الخلاصي في حياة عروسه . نذكر علي سبيل المثال :
1 ـ خلال الكوة أدرك إبيمالك أن رفقة هي زوجة إسحق و ليست مجرد أختة ( تك 26 : 81 ) و هكذا خلال جراحات الرب تعلن الكنيسة كعروس للمسيح يسوع .
2 ـ خلال الكوة نزل الجاسوسان من بيت راحاب الذي بحائط السور ( يش 2 : 15 ) و خلالها نزل داود من البيت هاربا من رسل شاول و نجا ( 1 صم 19 : 21 )
خلال الكوة ننزل من كبرياء هذا العالم لنعبر أسواره و ننجو من كل مشورات إبليس .
3 ـ الكوة التي ربطت عليها حبل من خيوط القرمز ( يش 2 : 12 ) , و التي من خلالها خلصت راحاب الزانية وكل أهل بيتها إنما هي إشارة إلي جراحات السيد المسيح التي أنقذت جماعة الأمم الفاسدة , وكل أولادهم الذين دخلوا الكنيسة , محفوظين في دم الرب الثمين .
4 ـ كما كانت الكوة علامة للخلاص , فإنها حملت أيضا إشارة إلي هلاك الشر فإذ تكحلت إيزابل الملكة الشريرة و زينت رأسها بزينة العالم , ألقيت من الكوة و لحست الكلاب دمها ( 2 مل 9 ) و أخزنا الملك الشرير أيضا الذي اتكل علي بعل زبون إله عقرون وليس علي الله الحي سقط من الكوة التي في عليته التي في السامرة ( 2 مل 1 : 2 ) فمرض و مات . و في تسبحة دبورة القاضية , طلبت من أم الملك سيسرا أنم تشرف من الكوة ( قض 5 : 28 ) لتري لماذا أبطأت مركبات أبنها عن المجئ و لماذا تأخرت خطوات مراكبه ... فقد هلك هو و مركباته .
5 ـ خلال هذه الكوة تئن أحشاء المؤمنين من أجل محبة الله الخلاصية , بينما يسخر غير المؤمنين بهذه الجراحات , متشبهين بميكال ابنة الملك الشرير شاول , فإنها إذ أشرقت من الكوة و رأت الملك داود يطفر و يرقص أمام الرب احتقرته في قلبها ( 2 صم 6 : 16 , 1 أي 15 : 29 )
نعود الي العروس التي تمتعت بيد الرب التي حلت في و سطها فأدركت سر صليبه , فتحطم قساوة قلبها الحجري , وقامت لتفتح لحبيبها . لقد صرخت مع الابن الأصغر " أقوم و أذهب إلي أبي " ( لو15 ) . أعلنت شوقها لمن أحبها بالرجوع إليه خلال التوبة الصادقة و الدموع المرة و التنهدات الخاصة . لذا قالت : " بداي تقطران مرا و اصابعي مر قاطر علي مقبض القفل " يري القديس غريغوريوس أسقف نبصص [149 ] أن المر يشير إلي " الموت الذي ماته المسيح عنا " فقد تلامسنا معة بالتوبة و قبنا أن نموت معه , لكي تفتح لحبيبي , لكن حبيبي تحول و عبر . نفسي خرجت عندما أدبر ( تكلم ) طلبته فما و جدته , دعوته فما أجابني : وجدني الحرس الطائف في المدينة ضربوني , جرحوني . حفظة الأسوار رفعوا أزاري عني .
أحلفكن يابنات أورشليم ( بقوي الحقل و فضائله ) [ 150 ]
إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه ياني مجروحة [151 ] حبا ما ححبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء !!!
ما حبيبك من حبيب حتي تحلفينا هكذا " [6 ـ 9 ]
لقد قامت تفتح لعريسها بعد طول رقاد , لكن عريسها كان قد تركها و عبر . لماذا فعل هكذا ؟ إنه يؤدب الإنسان لتأخيره في الاستجابة , و في تأديبه يبدو كما لو إنه قد تركنا إلي حين .... هذا الترك في ذاته يعتبر علامة اهتمام الله بنا , وقد أعطي الأب دانيال [ 152 ] تعليلين لهذا الترك :
1 . يتركنا الله فترة قصيرة لكي نتنبه إلي ضعف قلوبنا , عندئذ ندرك أنه ما كان لنا من نقاوة قلب قبلا إنما هو عطية مجانية من قبل الافتقاد الإلهي .
2 . عندما يتركنا ينكشف في داخلنا هدفنا القلبي و نشاطنا في الصلاة باحثين عن الروح القدس , أي يكون بمثابة إمتحان لنا في المثابرة و الرسوخ العقلي و الغيرة الحقيقية . فإذا ما نلنا السعادة الروحية و بهجة النقاوة نتمسك بهذه الأمور بأكثر حرص , لأن البشر بوجه عام لا يحرصون علي المحافظة علي ما يظنون أنهم قادرون علي نواله بسهولة .
يقول الأب دانيال : [ يعرفنا داود النبي الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله يكون أحيانا لصالحنا . لذلك طلب في صلاته ألا يكون هذا الترك دائما , متوسلا إليه أن يكون لحدود معينة , قائلا : " لا تتركني كثيرا " ( مز 119 : 8 ) بمعني أخر يقول : أنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم و ذلك لامتحانهم .... لذلك فأنا لا أسال ألا تتركني , فإنه ليس من المفيد لي ألا أشعر بضعفي ) لذلك قال : و يري لي أني تذللت ( مز 119 : 71 ) , ولا من النافع لي ألا تتاح لي فرصة للحرب , فإن هذه الفرصة لن تتاح لي بالتأكيد ما دمت أمتلئ بحماية الله الدائمة . فالشيطان لا يتجاسر و يحاربني ما دمت مستندا علي حمايتك ... فأنا ألتمس منك أن تتركني لكن ليس للغاية ( اللفظ اليوناني " ليس كثيرا " ) وذلك لأنه مفيد لي أن تتركني قليلا حتى يمتحن ثبات حبي .
لقد تحدث الأب دانيال كثيرا عما نسميه بالفتور الروحي بسبب ترك الله لنا إلي حين لكي نمتحن و نحارب و نتزكى ... لكنه في الحقيقة هو ليس تركا بل إهتماما إليها , وقد شبه القديس يوحنا الذهبي الفم موقف الله بمربية تمسك بأيدي طفل , تمشي به قليلا , ثم ترفع يديها عنه فجأة حتى يتجاسر و يمشي ... تنزع يديها لكنها تبقى تتطلع إليه بقلبها و فكرها كما تترقبه عيناها , و يداها تستعدان لمساندته .
تقول النفس البشرية :" طلبته فما وجدته " , مع أنه واقف بجوارها , بل هو في داخلها , ينتظر أن يري جهادها من أجله لتقول مع يعقوب : " لن أتركك حتى تباركني ."
" دعوته فما أجابينى " , مع انه مشغول بتدبير كل الأمور لأجل خلاصي . جالت النفس في كل العالم تطلب من تحبه مع أنه كان في داخلها . وكما قال القديس أغسطينوس : [ إنه في غباوة خرج يبحث عنه خارجا في الطبيعة و الكتب مع أن الله كان في داخله عميقا أعمق من عمقه وعاليا أعلي من علوه . ] و الآن من هم الحرس الطائف في المدينة الذين ضربوها و جرحوها و حفظة الأسوار الذين رفعوا إزارها عنها ؟
1 . إذ كان المتحدث هنا هو المؤمن في كنيسة العهد الجديد , فإنه باسم الكنيسة يعاتب جماعة اليهود و قادتها , الذين يمثلون الحرس الطائف في مدينة أورشليم و المسئولين عن حفظ كلمه الله . إذ كان يليق بهم أن يكونوا خداما للكلمة و كارزين بالمسيا المخلص , لكنهم يمسكون الكنيسة و يضربونها و يجرحونها و صاروا يشعرون بها ...
إمام هذه الاهانات , لا ينحرف المؤمن عن نظره نحو عريسه , بل بالعكس يؤكد للمضايقين أنه مجروح بمحبة هذا العريس السماوي , قائلا : " أحلفكن يا بنات أورشليم ... إن وجدتن حبيبي يا ني مجروحة حبا .
هذه هي المرة الخامسة التي تتحدث كنيسة الأمم في عتاب مع جماعة اليهود هكذا :
أ . ففي المرة الأولي ( 1 :5 ) تعاتبهم لأنهم أهانوها قائلين عنها أنها سوداء كخيام قيدار , ليس لها أصل , لم تستلم الشريعة , ولا جاء منها الأنبياء ... فتجيبهم أنها و إن كانت سوداء بحكم أصلها الوثني لكنها الآن هي في حضن الأب , ضمها إليه وجملها خلال ابنه يسوع المسيح الذي جملها و صيرها كشقق سليمان .
ب . في المرة الثانية ( 2: 7 ) إذ بدأت اتحادها مع الرب الذي وضع شماله تحت رأسها و يمينه تعانقها حاول اليهود إفساد هذه الوحدة و تحطيمها , أما هي فأعلنت أنه يأتي اليوم الذي فيه يظهر الرب ويعلن حقيقة هذه الاتحاد .
ج . وفي المرة الثالثة ( 3 : 5 ) , إذ دخل العريس القبر وقف اليهود موقف الشامتين , و كأنهم يقولون : " أخرج من القبر فنؤمن بك " . أما الكنيسة فتجبيهم لا تحسبن أنه مات وزالت رسالته , لكنه هو حي قائم من الأموات يقيمني معه و يصعدني من البرية بيضاء كأعمدة من الدخان معطرة بالمر و اللبان ...خلاله ارتفع إلي الأب .!
د . و في المرة الرابعة ( 3 : 11 ) , إذ كان الحديث عن الصليب طلبت الكنيسة من اليهود أن يفهموا أنهم و هم يكللونه بالشوك استهزاء به , إنما كان يكلل كعريس للبشرية كلها في يوم عرسه و يوم فرح قلبه .
ه . هذه هي المرة الخامسة ( 5 : 8 ) حيث تعلن الكنيسة لجماعة اليهود أنه و إن مر أولادها ببعض الفتور , وصار كأن الله قد تركهم , لكن لا زالت الكنيسة حبة مملوءة حبا ... إنها تجاهد حتى ينزع الرب عنهم فتورهم .
2 . ربما يشير الحرس الطائف في المدينة إلي خدام الكنيسة , مدينة الله و يكون حفظة الأسوار هم الكارزين بالكلمة , فإن هؤلاء جميعا ملتزمين أن يختفوا وراء كلمة الله في حديثهم مع النفوس الفاترة . هذه النفوس تشعر كأنها قد ضربت منهم و جرحت وصارت في عار و خزي برفع إزارها عنها , ذلك لأن كلمة الله كالسيف الذي يبتر الشر و يطرده عن النفس . كما أنها كالمرآة تكشف ضعفات الإنسان و تفضح أعماقه ! فالضربات و الجراحات و العري هنا ليس لمضايقة النفس و التشهير بها , و أنما جراحات الحب التي تقود للتوبة الصادقة . وكما يقول الرسول بولس نفسه : " لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته " ( 2 كو 2 :2 )
علي أي الأحوال إذ ينزع الفتور عن النفس البشرية , ليس فقط تدرك عودتها إلي الأحضان الأبوية في المسيح يسوع , لكنها تشهد لقوة هذا العمل حتى أمام غير المؤمنين , الذين يتساءلون قائلين :
" ما حبيبك من حبيب , أيتها الجميلة بين النساء !
ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا ؟! [ 9 ]
إنك جميلة , ولا ينقصك شيء . فمن هو هذا الحبيب الذي تنشغلين به ؟ من هو هذا الحبيب الفريد الذي تحلفنا هكذا من أجل بقائك في اتحاد معه ؟!
لعل في هذا التساؤل نبوة عن قبول اليهود للسيد المسيح في أواخر الأيام , فإنه يأتي يدرك فبه اليهود أنهم يخطئون إذ يطلبون مملكة أرضية و مطامع زمنية , لكن الحاجة ألي خلاص أبدي و تذوق لمحبة الله السماوية .!
الحب الزوجي المتبادل :
1 . العروس تمدح عريسها .
2 . حوار الحديقة .
3 . وصفة للعروس " شولميث "
العروس تمدح عريسها
إذ يكتشف العالم في العروس حبها لعريسها و يدركون فاعلية هذا الحب في حياتها الداخلية و أنعكاساته علي ملامحها و مشاعرها وتصرفاتها , يتساءل عن هذا العريس الفريد . وهنا تشهد العروس لعريسها لا بالكلام بل بالحياة التي تعيشها , فإنها تعرفه تماما و تلمسه متحدة به , يدخل بها إلي معرفة الأب غير المنظور ... تحمل شهادة حقه و عملية فتقول عنه :
1 . حبيبي ( خليلي ) أبيض و أحمر " [ 10 ]
ما أعذب هذا المخلص العريس ففيه أجتمع اللونان : الأبيض و الأحمر , كل منهما يوضح الأخر و يكمله ! فهو أبيض , لكنه ليس بالأبيض الشاحب الذي بلا حياة كحنانيا رئيس الكهنة الذي قال عنه الرسول بولس : " سيضربك الله أيها الحائط المبيض . أفأنت جالس تحكم علي حسب الناموس و أنت تأمر بضربي مخالفا للناموس " ( أع 23 : 3 ) , فبمخافته للوصية و الناموس صار في حكم الموت بلا حياة . فقد دمه علامة الحياة و صار شاحبا كالأموات , أما مخلص الكنيسة ففي بياضه يحمل احمرارا دائما علامة كمال القوة و الحياة و الحيوية ! كذلك لا يحمل المخلص احمرارا منفردا عن البياض وألا كان في ذلك إشارة إلي القتل و سفك الدم كما جاء في سفر الرؤيا ( رؤ6 : 4 ) و كما وصفت الخطية أنها كالقرمز و حمراء كالدودي ( إش 1 : 18 ) ولكنه هو " الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة هذا البهي بملابسه ... المتكلم بالبر العظيم للخلاص " ( إش 63 : 1 )
لقد جاءت كلمه " أبيض " هنا بمعني " بهي " إذ هو شمس البر الذي أضاء علينا نحن الجالسين في الظلمة , ليدخل بنا بواسطة روحه القدوس إلي كمال نور معرفة الأب . حملنا فيه خلال بهائه في استحقاقات دمه ( الأحمر ) لنكون في حضن الأب نتعرف علي كمال أسراره . هكذا يمتزج بهاؤه بعمله الخلاصى , أي بياضه باحمراره , حتى نحمل انعكاسات بهائه فينا بدخولنا إلي أبيه .
في سفر دانيال نري لباسه أبيض كالثلج ( دا 7 : 2 ) وفي تجليه أيضا " صارت ثيابه بيضاء كالنور " ( مت 17 : 2 ) وما هو ثوب السيد المسيح غلا كنيسته التي يلتحف بها كالثوب , يسكن في داخلها . فما يحمله من بهاء و بياض يعكسه علي كنيسته كما علي السمائيين الذين في حضرته علي الدوام ( مر 16 : 5 , أع 1 : 10 ) فنظهر في السماء بثياب بيض ( رؤ3 : 4 , 7 : 9 ) , كما نوصي هكذا " لتكن ثيابك في كل حين بيضاء " ( جا 9 : 8 )
لقد تحدث الكتاب المقدس عن ظهورات كثيرة للملائكة لكنه لم يتعرض لوصف ثيابهم , أما في أحداث القيامة و الصعود فقد أكد لنا الكتاب أن الملائكة قد ظهرت بثياب بيضاء . من أجلنا ظهرت , كي نعرف أننا خلال قيامة الرب و صعوده نغتسل فنبيض أكثر من الثلج ( مز 50 ) إن كانت خطايانا كالقرمز ـ فقد دفنت في القبر ـ و أقامنا كالثلج ( إش 1 : 18 ) لهذا يقول دانيال النبي " تتطهرون فتبيضون " ( دا 11 : 35 ) هكذا تري الكنيسة عريسها فتفرح ببهائه و تبتهج بدمه ... أما العدو الشيطان فيرتعب أمام بهاء المخلص و يخاف من دم صليبه لهذا تقول الكنيسة :
2 " علم بين ربوة " [10 ]
صار معروفا للناس و الشياطين , تعرفه الكنيسة بكونه " قائم راية للشعوب " ( إش 11 : 10 ) ارتفع علي الصليب فجذب البشرية إليه ليسكب بهاءه عليها و يقدسها بالدم , تعرفه الشياطين فتصرخ : " أنزل من علي الصليب " لأنه حطم مملكتهم و أشهرهم جهارا . ظافرا بهم ( كو 2 : 15 ) .
3 " رأسه ذهب إبريز "( خالص )
قصصه مسترسلة , حالكة كالغراب [ 11 ]
إن كان الذهب يشير إلي الحياة السماوية فإن " الذهب الخالص " يشير إلي لاهوته , إذ فيه " يحل ملء اللاهوت جسديا " ( كو 2 : 9 ) . لقد أقامه الأب رأسا للكنيسة " الذي منه كل الجسد بمفاضل وربط " ( كو 2 : 9 ) إذ هو وحده كابن الله و كلمته يقدر أن يدخل بالجسد كله إلي السماء . إن كان الرأس سماويا فالجسد لا يقدر أن يعيش إلا علي مستوي سماوي ما دام الجسد متحدا بالرأس , هذا هو سر حبها لعريسها , أنه يدخل بها إلي السموات أي إلي أحضان أبيه , خلال اتحادها به .
أما شعره المحيط بالكنيسة المسترسل إنما هو الكنيسة أو كما يقول القديس أغسطينوس : [ هو جماعة القديسين الذين بمثابة شعر الرب لا تسقط منه واحدة بدون إذن أبيه ... هم يعيشون به . لهذا لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله " أسود حالك كالغراب " , لا يشيخ مؤمن بل يتجدد كالنسر شبابه
هذا هو عمل الروح القدس , الذي يهب الشركة بين الأعضاء و الرأس , فتبقي الأعضاء في كمال قوتها خلال الرأس الذي لا يضعف مطلقا .
كما أن السيد المسيح هو " هو أمس و اليوم و إلي الأبد " ( عب 12 : 8 ) , فإن كنيسته تعبر خلاله فوق حدود الزمن فلا تصيبها شيخوخة ولا تقوي عليها أحداث أرضية .!
4 " عيناه كالحمام علي مجاري المياه "
مغسولتان يا للبن جالستان في و قبيهما ( علي المجاري ) [ 153 ] " [12 ].
مع أنه الملك المرهب الذي يخيف الأعداء , عيناه كلهيب نار ( رؤ 1 : 14 ) فاحصة لدقائق الأمور و خفيايها , لكنه إذ يظهر لمؤمنيه يرون عينيه كالحمام البسيط الوديع المملوء براءة [ 154 ] . عيناه كعيني الحمامة " أطهر من أن تنظرا الشر " ( حب 1 : 13 )
يري الأب فيكتوربانوس أسقف pateu من رجال القران الثالث أن المياه تشير إلي الشعوب الكثيرة المتعددة التي جاءت إلي الله خلال المعمودية [ 155 ] بهذا فإن الحديث عن عينيه كالحمام علي مجاري المياه إنما يشير إلي تجسد الرب و إعلان بدء جيل جديد مقدس خلال عماده.
أما كونهما مغسولتان في اللبن فيشير ذلك إلي اهتمام الرب أن يقدم لمؤمنيه الإيمان الخالص غير الغاش غذاء لنفوسهم , إذ يقول القديس [ أمبروسيوس ] : يعتمد الرب في اللبن بمعني أنه يعتمد في الإخلاص , و الذين يعتمدون في اللبن هم أولئك الذين لهم الإيمان الذي بلا دنس .
أما جلوسها في و قبيهما أي استقرارهما في موضعهما إنما يشير إلي رعاية الله لكنيسته وأولاده , يركز نظره الإلهي علي كل عضو , ولا يحول عنه عينيه حتى يدخل به شركه الأمجاد . نستطيع القول أيضا بأن عيني المسيح هم كهنته وخدامه هؤلاء الذين يحملون نظرة المسيح نحو البشرية , لهم البصيرة الروحية المتفتحة بالروح القدس كما " بالحمامة " , ليدخلوا بالشعوب إلي مياه المعمودية , هناك يغتسلون من خطاياهم , و ينعمون بالإيمان غير الغاش كاللبن . يجلس هؤلاء العاملون في و قبيهما , أي لهم موضع في الرأس " المسيح " حتى يقدرون خلاله أن يتطلعوا إلي كل نفس , مهتمين بخلاص الجميع . أما تشبيههم بعيني المسيح فهو تشبيه كتابي , إذ عرف النبي في العهد القديم بالرائي ( عا 7 : 12 ) , إذ يستطيع النبي بروح النبوة أن يري ما لا يستطيع الشعب أن يراه . وكان يلقب أحيانا بالرقيب ( حز 3 : 17 , 23 : 7 ) يقف علي البرج ليري إن كان هناك أعداء فينذر الشعب .
5 " خداه كخميلة ( سلطانية ) [ 156 ] الطيب واتلام ) تفيض رباحيين ذكية [13 ]
خدا السيد المسيح اللذان يشيران إلي طلعته قد تعرضا للهزء و الاحتقار كما جاء علي لسان إشعياء النبي : " بذلت ظهري للضاربين و خدي للناتفين , وجهي لم أستر عن العار و الخزي " ( إش 50 : 6 ) ... هذا الوجه الذي لم يحاوله الرب عن بصاق الأشرار ( مت 27 : 3 ) , تراه الكنيسة يحمل دلائل الحب الباذل فتشبه بخميلة طيب أي مجموعة من الشجيرات المتشابكة التي تفتح رائحتها طيبا , و بأتلام ( باقات ) رياحين ذكية , تشتمها النفس رائحة حياة .
6 " شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا [13 ]
تحدثنا قبلا عن العريس كسوسنه البرية . و أنه بالاتحاد معه يصير المؤمنون أيضا سوسن . أما هنا فشفتا العريس تشبهان بالسوسن ( زنبق ) .... فماذا يعني هذا ؟
يشير السوسن إلي المجد الملوكي , إذ يتحدث عنه الرب قائلا : " ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها " ( مت 6 : 29 ) فشفتا السيد المسيح تعلنان تعاليم مجيدة , أو بمعني أخر تقدم كلمة الحياة القادرة أن تدخل بالمؤمنين إلي الحياة المجيدة الأبدية . لهذا يقول عنه المرتل :" انسكبت النعمة علي شفتيه " ( مز 45 : 2 )
هاتان الشفتان تحملان رائحة طيب عطرة تقطر كالمر . وقد وصف الإنجيليون الكلمات الخارجة منهما هكذا : " لم يتكلم إنسان مثل هذا قط " ( يو 7 : 47 ) " كان الجميع يشهدون له يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه و يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ " ( لو 4 : 22 )
أما و صفها بأنهما يقطران مرا ممتزجا بالميعة إنما يعني أن كلماته ممتزجة بالدخول في مرارة ألامه و الدفن معه إذ كفن بالميعة .... كل من يسمعه يشتهي الدخول معه في شريكة ألامه و الموت معه . كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص [175 ] : [ يفيض المر من جسده و يملا نفوس من قبلوه و هذا رمز واضح عن إماتة الجسد ] ...
يري القديس غريغوريوس أيضا أن هذا الفم الذي يفيض سوسنا و مرا مائعا إنما يمثل الرسل و الذين هم فم الرب , يشهدون بكلمة إنجيله التي هي السوسن , و يدخلون بالمؤمنين إلي المر المائع أي الأمانة في المعمودية أو الدفن معه لينالوا قوة قيامته . فالرسول بطرس أفاض بسوسن بهي ـ الذي هو الكلمة ـ في البيت كرنيليوس , مالئا نفوس سامعيه بالمر . إذ دفنوا مع السيد المسيح في المعمودية , و صاروا أموات عن العالم .
7 " يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد " [14 ]
تشير " الحلقة " أو الدائرة " إلي الأبدية . لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية . يداه أبديتان , تشبعان النفس و الجسد معا إلي الأبد . أما كونهما من ذهب فإشارة إلي سمتها السماوية ... فهو يمسك بعروسه و يدخل يدها في يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته و إمكانياته السماوية , لتعبر معه إلي السماء .
أما الزبرجد فقد ورد مرارا في العهد القديم ( حز 1 : 16 , دا 10 : 6 ) , ليشير إلي قوة التأسيس .... إذ " أعمال يديه أمانه و حق " , تؤسسان عروسه علي الإيمان الراسخ و الحق .
8 " بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق [ 14 ]
تشير البطن أو الأحشاء إلي مشاعر الله العميقة المملوءة حبا و حنانا كما جاء في إرميا : " حنت أحشائي إليه رحمة أرحمه يقول الرب " (ار 21 : 20 ) . أما كون هذا الحنان كالعاج الأبيض , فذلك لأن العاج يأتي كثمر للألم إذ ينزع من الفيل خلال آلامه حتى الموت . و أما كون أحشاؤه مغلقة بالياقوت الأزرق وهو لون سماوي , إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيا مؤقتا بل سماوي أبدي .
9 . ساقاه عمودا رخام مؤسستان علي قاعدتين من إبربز ( ذهب ) " [ 15 ] تشير الساقان إلي القدرة علي السير بثبات , و أما الذهب أو الإبربز فيشير إلي الطبيعة السماوية . و كان من يتحد قدميه كل قوي إبليس , محطما الموت و قاهرا الخطية .
و للقديس أمبروسيوس تعليق جميل علي هذه العبارة , إذ يقول : [ ساقاه عمودا رخام مؤسستان علي قاعدتين من ذهب , لآن المسيح يتمشى في النفوس , و يجعل له طرفا في أذهان قديسيه , فيكون فيها كما لو كانتا قاعدتين من الذهب و أساسات من الحجارة الكريمة طبع عليها أثار قدمي كلمة الله السماوي .
10 " طلعته كلبنان . فتي كالارز [ 15 ]
لبنان منطقة سياحية جميلة يلجا إليها بعض المتزوجين حديثا لبدء حياتهم الزوجية في جو جميل , هكذا فإن وجه الرب يسوع بما يحمله من بشاشة و حنان يفرح النفس التي تريد أن تعيش في الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهي . لقد وصف المرتل المسيا قائلا " أبرع جمالا من بني البشر " وجاء في التقرير الذي كتبه بيلاطس البنطى لهيرودس عن السيد المسيح " تشتهي أن تتطلع إليه . "
أما سر جماله فيمكن في كونه " فتي كالارز " المعروف بطوله الشامخ مع استقامته و رائحته الذكية .... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتي الذي لا يشيخ قط .
و العجيب أن الرب في تنازله حمل ناوستنا مشاركا إيانا كل مراحل نمو ما عدا الشيخوخة , صار جنينا مع الأجناء . وطفلا بين الأطفال , و صبيا و شابا فرجلا لكنه صعد قبل الشيخوخة , إذ لا يليق به أن يشيخ , حتى لا تحمل كنيسته روح العجز و الشيخوخة الروحية فقد جاء في الوحي الإلهي : " يتحدد مثل النسر شبابك " ( مز 103 : 5 ) . وجاء في الطقس الكنسي عن الكنيسة و عن العذراء مريم بكونها العضو الأمثل في الكنيسة : " الكرمة التي لا تشيخ ..."
المسيحي لا يعرف الشيخوة مطلقا , بل يزداد مع الأيام شبابا , فإنه و أن كان إنسانه الخارجي يفني لكن الداخل يتجدد يوما فيوم ( 2 كو 4 : 16 ) , وكما يقول الرسول بولس : " لبستم الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه " ( كو 3 : 10 ) حقا إن الجسد يضعف وقد يشيخ لكن الروح يبقي نشيطا و قويا ( مت 26 : 41 , مر 14 : 38 )
11 . " حلقة حلاوة وكله مشتهيات
هذا حبيبي و هذا خليلي يا بنات أورشليم " [ 16 ]
يقول المرتل : " ما أحلي قولك لفمي , أحلي من العسل لفمي " ( مز 119 : 103 ) ههكذا يجد المؤمن في كلمات السيد عذوبة خاصة و حلاوة , لآن هذه الكلمات هي روح و حياة . من يأكل منها يرجع إلي السيد جائعا إليه , ومن يشرب منه يعطش بالأكثر إليه ..
إذ ينصت الإنسان لكلمات الرب ينسحب قلبه في شوق أعظم نحو التعرف علي هذه الأسرار الإلهية , و يبقي حياته كلها جالسا عند قدمي الرب لا يريد مفرقته , قائلا مع المرتل : " لكل كمال وجدت حدا أما و صاياك فواسعة جدا" ( مز 119 )
سر حلاوة كلماته أنها تحمل قوة و سلطانا , فلا يعطي مجرد وصايا أو نصائح وإرشادات أو تحذيرات , لكنه يعطي مع الكلمة قوة التنفيذ , فترتفع الوصية بالإنسان ليدخل إلي معرفة أسرار السموات , و تنطلق النفس من مجد إلي مجد , تحمل باستمرار سر قوة جديدة لا تنتهي .
أخيرا , إذ تشعر العروس بعجز اللغة عن و صف عريسها تقول : كله مشتهيات " . هذا هو حبيبها الصديق الذي تطلبه و تسعي إليه ... إنه مشبع لها , فيه تجد كل حبها و إليه كل اشتياقها !
بدء الحياة الزوجية
ما أن دعت الكنيسة عريسها للنزول إليها ليأكل من جنته التي في داخلها , المملوءة من أغراس روحه القدوس و المرتوبه من ينبوع المعمودية المقدس , حتى استجاب لدعوتها فورا بغير تردد , قائلا : " قد نزلت إلي جنتي يا أختي العروس قطفت مري مع أطايبي , أكلت شهدي (خبزي ) 143 مع عسلي , شربت خمري مع لبني ,كلوا أيها الأصحاب , اشربوا , واسكروا أيها الأحباء "
1 ـ لقد أسرع بالنزول إلي جنته بغير تردد , لآن الدعوة هنا جاءت مطابقة لمشيئته , فوجدت استجابة سريعة في عيني الله . لقد دعته للنزول إلي جنته , التي يشتهي أن ينزل إليها علي الدوام . فإن كان الرب منذ الأزل قد أعد أحداث الخلاص حتى صارت موضوع لذته و سروره بالرغم مما حملته من خزي و ألام و موت كقول الرسول بولس : " من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب مستهينا بالخزي " ( عب 12 : 3 ) فإن عروسه تدعوه أن ينزل إلي ذات البستان الذي دخله ليلة ألامه , و إلي ذاك الذي فيه ضع جسده في القبر . تدعوه أن يراها و هي تكمل نقائص شدائده في جسمها ( كو 1 : 24 ) أي تشاركه ألامه و صلبه ودفنه , لهذا لا يتردد الرب في قوله : " قطفت مري مع أطيابي " .... وكان أحداث الخلاص صارت حية و ممتدة في حياة أولاده !
و يري الأب روفينوس [144] أن الجنة هنا ليست إلا الموضع الذي صلب فيه الرب , حيث يعلن الحكيم أن العريس يشرب الخمر ممتزجا بالمر , الذي قدم للرب في لحظات صلبه .
لقد قبل الرب الدعوة فورا إذ وجد كل ما للعريس إنما يخصه , فلقبها هو جنته , وهي أخته و عروسه , وفي داخلها وجد مر و أطيابه و شهده و عسله وخمره و لبنه . وجد ثمار روحه القدوس في داخلها فأسرع إليها , ولم يجد في داخلها أجرة إثم أو أجرة زانية أو غير ذلك من الأمور التي لا يقبلها إذ يقول " لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلي بيت الرب ألهك عن نذور ما لأنها كليهما رجس لدي الرب إلهك " ( تث 23 : 18 ) قبل أن يشرح القديس غريغوريوس أسقف نبصص ما بداخل الجنة , تساءل :
" من هو هذا الذي تدعوه للوليمة التي أعدتها "
إنه ذاك الذي منه و به كل شيء كائن ( 1 كو 1 : 17 ) الذي يعطي عونا لكل أحد في حين حسن ( لو 12: 43 ) , لذي يفتح يده فيشبع كل حي بالبركة ( مز 144 : 16 ) , الذي ينزل بكونه الخبز السماوي ( يو 6 : 14 ) واهبا الحياة للعالم , يسكب من عنده وحده حياة علي كل الخليقة .
هذا هو الذي أعدت له العروس مائدتها , أما المائدة فهي جنة مغروسة أشجار حية , و أما الأشجار فهي نحن و الثمر الذي نقدمه هو نفوسنا . وذلك كقول عندما أخذ كمال ناسوتيتنا : طعامي أن أعمل مشيئة أبي ( يو 4 : 34 ) . أما غاية إرادته الإلهية فواضحة , إذ يريد أن الجميع يخلصون و إلي معرفة الحق يقبلون ( 1 تي 2 : 4 )
إذن الطعام المعد هو خلاصنا و الثمر هو إرادتنا الحرة التي تقدم لله " نفوسنا" كأنها ثمر يجني من الغصن .
أما العبارة " لينزل حبيبي " [1 ] فهي مثابة طلب في تعبيره يماثل الصلاة : " ليتقدس أسمك " و " لتكن مشيئتك " . فكما أن تكوين هاتين العبارتين يحمل صلاة هكذا تصلي العروس قائلة : " لينزل ( خليلي ) معلنة لله فيض ثمر كمالها . نزوله يستلزم عمل محبته الإلهية , إذ لا نقدر نحن أن نرتفع إلي الغلي ما لم يقف الرب عند المتواضعين و يرفع الودعاء ( مز 146 , 147 :6 )
فلكي ترتفع النفس إلي السماء تطلب عون الله العالي متوسلة إليه أن ينزل من عظمته , و يتحد بنا هنا نحن الذين أسفل .
لقد جاءت الإجابة خلال النبي هكذا : " حينئذ تدعو ... فيقول هأنذا " ( إش 58 : 9 ) بل و قبلما ترفع العروس صلاتها يسمع طلبتها و يصغي إلي استعداد قلبها ( مز 10 : 17 ) الترجمة السبعينية .
إنه يأتي إلي جنته ... و يقطف أطيابها المملوءة من ثمر فضائلها . عندئذ يتحدث عن تمتعه بالوليمة و تلذذه بها قائلا : لعروسه : " قد نزلت إلي جنتي يا أختي العروس " ...
القديس غريغوريوس أسقف نيصص [ 145 ]
إنه ينزل غلي القلب و يسكن فيه و يستريح , و يقطف مره مع أطيابه ... أي يجني ثمار الصليب ( المر ) مع بركات قبره المقدس ( الأطياب ) يري كأس مرنا إنما هو كأسه , و الأطياب التي نكفن نحن بها إنما هي أطياب تكفينه .... يرانا حاملين صليبه و مدفونين معه عن العالم .
في داخلنا يأكل شهده و عسله و وكأنه قد دخل أرض الموعد التي تفيض لبنا و عسلا . يأكل ذات النوعين من الطعام " الشهد و العسل " اللذين أكل منها مع تلاميذه بعد قيامته مبرهنا بطرق كثيرة أنه حي قائم من الأموات يبقي عاملا وسط كنيسته .
يجد كل ما في قلبنا حلو و شهي كالشهد و العسل .
يشرب أيضا خمره أي حبه الذي سكبه فينا بروحه القدوس , مع لبنه غير الغاش أي النقاوة و الطهارة ....
عندئذ يدعو أصحابة و أحباءه أن يدخلوا معه جنته الخاصة لكي يشبعوا و يفرحوا بعروسه . فمن هم هؤلاء الأصحاب و الأحباء ؟ إنهم السمائيون الذين يفرحون بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة و تسعين بارا لا يحتاجون إلي توبة ( لو 15 : 7 ) هؤلاء يدخلون مع الرب القلب لا ليملكون بل كجند الملك السماوي , أصدقاء العريس الذي يقف و يسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس " ( يو 3 : 29 )
فيما يلي مقتطفات من أقوال الآباء عن هؤلاء الأصدقاء و عملهم في القلب :
القلب هو قصير المسيح , فيه يدخل الملك لكي يستريح , ومعه الملائكة و أرواح القديسين , هناك يقطن و يتمشى وفي داخله يقيم مملكته !
القديس مقاريوس الكبير [ 146 ]
*إنه لا يقف بمفرده بل يذهب قدامه الملائكة قائلين : " ارفعوا أليها الرؤساء أبوابكم " أية أبواب هذه ؟ تلك التي يترنم بها المرتل في موضع آخر قائلا : " افتحوا لي أبواب البر " ( مز 19 : 1 )
إذن افتحوا أبوابكم للمسيح كي يدخل فيكم , افتحوا أبواب الطهارة , أبواب الشجاعة , أبواب الحكمة . صدقوا رسالة الملائكة : ارفعوا أبوابكم الدهرية ليدخل ملك المجد , رب الصباؤوت ( الجنود )
القديس أمبروسيوس [ 147 ]
إذن لنفتح القلب لله و ملائكته , ليكون في داخلنا فرح سماوي.
2 ـ ظلال في الحياة الزوجية " أنا نائمة و قلبي مستيقظ, صوت حبيبي ( قريبي ) قارعا
افتحي افتحي لي يا أختي يا حبيبتي حمامتي يا كاملتي لآن راسي امتلا من الطل , و قصصي من ندي الليل . قد خلعت توبي فكيف البسه ؟ قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما ؟ [ 2ـ 3 ]يالها من صورة دقيقة للمعاملات المتبادلة بين الله و الإنسان . فقد عاش الإنسان زمانا طويلا و هو مسترخي و مهملا خلاصه بالرغم من كل الإمكانيات التي قدمها له الله ليكون متيقظا . لقد أراد الله أن يجعله ابنا للنور و النهار , لكن الإنسان أصر أن يحول زمان غربته كله ليلا يقضيه نائما حتى و أن كان قلبه متيقظا .
لقد أعطى الله للبشرية الناموس الطبيعي ييقظ قلبهم حتى أنهم عذر لكنهم " لما عرفوا الله لم يمجده أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم و إظلم قلبهم الغبي . و بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء , و أبدلوا مجد و الزحافات " رو 1 : 21 ـ23 ) و أعطاهم الناموس المكتوب , لكنهم إذ إخطئوا في الناموس فبالناموس سقطوا تحت الدينونة . " لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " ( رو 2 : 13 ) فالناموس المقدس أو الوصية المقدسة و العادلة و الصالحة أعلنت لي الخطية و كشفتها فعاشت الخطية و مت أنا ( رو 7 )
وأرسل الله أنبياءه , لكن ماذا فعلت البشرية بهم ؟ يقول الرب نفسه : " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء و راجمة المرسلين إليها , كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا ؟!( مت 23 : 37 )و أخيرا " صوت حبيبي قارعا " .... نزل " كلمة الله " نفسه إلي الإنسان يقرع باب قلبه ... يقف أمام النفس يرجوها أن تفتح له . نزل شمس البر و دخل زماننا الذي جعلناه ليلا . لكي يضئ علينا نحن الجالسين في الظلمة و ظلال الموت , فنقوم من غفلتنا ! لعل الحديث هنا خاص بالنفس التي دعت المسيا عريسا لها , لكنها عادت فاسترخت في حبه . غلبها النوم و لم تقدر أن تسهر معه في ليلة ألامه , مع أن قلبها مسكن الروح القدس فيه حياة . يؤنبها ! لقد فترت في حبها له و لكت الله محب البشر يري قلبها متيقظا فلا يكف عن أن ينزل إلي بابها يدعوها : " افتحي افتحي لي يا أختي يا خليلتي , يا حمامتي , يا كاملتي " .....
صوت الحبيب هنا يعاتب في رققة فلا يخرج مشاعر القلب , بل يشجع عروسه فيدعوها أخته و خليلته و حمامته و كاملته ... مع أنها تغط في نومها ! لا ينتهرها ولا يوبخها بل يعطيها رجاء و يشجعها . أما تكراره السؤال " : افتحي , افتحي لي ..." فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية في العهدين . القديم و الجديد , فإن الله لم يتغير , ولا دعوته قد تغيرت غذ يطلب أن ينفتح له القلب و يقبله ..!
وفي تكرار الدعوة أيضا إعلان عن كمال حرية النفس , فهو الخالق و السيد و الملك لكنه لا يقتحم النفس اتقحاما , أنما يتوسل إليها أن تنفتح له ... ففي سفر الرؤيا نراه يقول " هأنذا واقف علي الباب و أقرع , إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه و أتعشى معه و هو معي " ( رؤ3 : 20 ) حتى عندما تقدم إلي تلاميذه ماشيا علي البحر وسط الهياج الشديد لم يقتحم سفينتهم بل يقول الإنجيلي : " فرضوا أن يقبلوه في السفينة " ( يو 6 : 20 ) لقد أستخدم القديس أثناسيوس الرسولي هذا الحديث الودي للسيد المسيح نحو النفس البشرية في كتابه " تاريخ الأريوسيين " كحجة ضد استخدامهم العنف قائلا [ 148 ] : [ إذ يأتي ( الرب ) لكل أحد لا يلزمه أن يفتح بالقوة , لكنه يقرع الباب قائلا : افتحي لي يا أختي يا عروسي " فإن فتح له دخل , وأن تأخر فارقه ولا يدخل . إنه يستخدم الإقناع و النصح عندما يكرز بالحق , ولا يستخدم السيوف و الجند . ولكن أي إقناع هذا حين يعم رعب الإمبراطور!؟ ]
إنه يقنعها أن تفتح له بالحب , فقد صار له أختا وهو أخوها البكر , يقدر أن يعينها . لقد صار " بكرا بين أخوة كثيرين " ( رو 8 : 39) إقتحم باب الموت و حطمه فصار باكورة الراقدين ( 1 كو 15 : 20 ) .... لتفتح قلبها لذاك الذي فتح لها باب الحياة !
يعود فيرجوها أن تفتح بحق الصداقة القوية بينهما إذ يدعوها " خليلته " وهذا هو اللقب الذي دعي به إبراهيم أب المؤمنين ( 2 أي 20 : 7 , إش 41 : 8 , مع 2 23 ) إن كان الله قد فتح أسرار قلبه لخليه إبراهيم , قائلا : " هل أخفي عن إبراهيم ما أنا أفعله ؟ ! " ( تك 18 : 17 ) .... فكم بالحري يليق بالمؤمن و قد صار خليلا لله أن يفتح قلبه بالكامل له .
إنه يجتذبها لفتح أبواب قلبها بدعوته إياها " حمامته " إذ حملت " الروح القدس " الذي نزل علي شكل حمامة في داخلها , فصار لها القدرة علي فتح قلبها .
و أخيرا يشجعها علي ذلك بكونها " الكاملة " التي بلا عيب , فلا تقدر أن تغلق الباب في وجهة
هكذا يتعامل الله معنا , فيوصينا لا خلال أوامر أو نواه بل بإعلان حبه و صداقته , و يوضح لنا مركزنا بالنسبة له , و يكشف لنا إمكانيات روحه القدوس العامل فينا و يشجعنا خلال ما بلغنا إليه !أخيرا يتوسل إليها بكونه " حامل الآلام و الأحزان " من أجلها , إذ يقول لها : " لأن راسي امتلا من الطل , و قصصي من ندي الليل " [2 ]
إن كنت قد جعلتى زمانك ليلا بلا نهار , فصارت حياتك نوما , فإني بالحب أقتحم الزمن و أدخل إلي هذا الليل لا
لأنام بل لأحمل أهوال الليل عنك . بالفعل دخل السيد البستان ليلا و نام تلاميذه ولم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة ( مت 26 : 40 ) , أما هو فكان يدخل ألي العمق يتسلم كأس الألم حتى يشربه عن البشرية كلها .... في البستان كان " يحزن و يكتئب " ( مت 26 : 37 ) . كان يصرخ : نفسي حزينة جدا حتى الموت " , و كانت قطرات العرق تتصبب كالدم !!!
إنه يناجيها و يطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها في تلك الليلة العاصفة الممطرة , فقد امتلا رأسه من الطل و قصصه من ندي الليل... حمل الغضب الإلهي جسده وكما يقول النبي : أحزاننا حملها واوجاعنا تحملها و نحن حسبناه مصابا مضروبا من الله و مذلولا . وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل اثامنا وتأديب سلامنا عليه , و يحبره شفينا " ( إش 53 : 54 )
أما هي فقدمت اعتذارات بشرية غير لائقة , و تحدثت بغير اكتراث , فلم تدعوه ربها أو سيدها , ولا حتى نادته باسمه ولا ذكرت أحد القابه , بل قالت : " قد خلعت ثوبي فكيف البسه ؟! قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما ؟ "
[3 ] يالها من حجج واهية , تقدمها النفس في فتورها الروحي .... أعتذار لعدم فتح القلب لذاك الذي تعلم عنه تماما أنه يحبها . أنها صورة للإنسان و قد ضن علي نفسه أن يتحمل يسيرا من التعب لأجل تحقيق اللقاء مع السيد المسيح بالرغم من الكثير الذي دفعه السيد ..!
ما أسهل أن تصنع أذارا علي جسدها و تنتعل حذاء في قدميها ... لكنها انشغلت براحه جسدها عن التمتع بعريسها ... تشبهت بهؤلاء الذين قدموا أعذارا لكي لا يحضروا العرس ( مت 22 : 5 )
إن كانت قد خلعت ثوبها , فالسيد المسيح نفسه هو الثوب الأبدي الذي يسترنا , كقول الرسول بولس " قد لبستم المسيح " ( غل 3 : 27 )
هذه هي الحلة الأولي التي يقدمها الآب السماوي للابن الراجع إليه ( لو 15 : 22 ) . هذا هو الثوب المزخرف الذي يقدم من يد الله كقول زكريا النبي : " قد أذهبت عنك إثمك و ألبستك ثيابا مزخرفة " ( زك 3 : 4 )
إن كانت قد خلعت ثوبها , فهو يعطيها روحه لكي تلبسه , كسر حياة فيها إذ يؤكد علي تلاميذه : " ها أن أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا قوة من الأعالي " ( لو 24 : 49 ) إن كانت قد غسلت رجليها , فلتعلم أن القارع علي الباب هو سيدها الذي يتمنطق و يغسل أقدام عروسه ( يو 13 : 5 ) , هي غسلتهما بمياه برها الذاتي لكي يستريح ضميرها إلي حين , لكن إذ تمتد يدي الرب لغسل قدمتها يصير لها راحة في ملكوته الأبدي . لهذا قال الرب لبطرس الرسول " : إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب " ( يو 13 : 8 ) إذن فلنقم من سرير " الأنا " أو " الذات البشرية " و نتقدم لعريسنا الذي يسترنا بدمه و يلبسنا روحه القدوس , كما يغسل حياتنا الداخلية فنحيا مقدسين له .
إن كانت النفس لا تقدر أن تنصب إلي صوت من أحبها الذي أعلن بطرق متنوعة , فقد بقي أن يمد يده المجروحة علي الصليب إلي داخل ذهنها فتري آثار جراحات الحب التي احتملها من أجله , فتئن أحشاؤها عليه , قائلة : " حبيبي مد يده من الكوة , فأنت لا فتح لحبيبي , و بداي تقطران مرا , و أصابعي مر قاطر علي مقبض القفل [ 4 ـ 5 ]
إذ ضافت الدنيا في وجه التلاميذ بسبب الخوف أغلقوا الأبواب و أقاموا المتاريس و لم يعلموا أن الأبواب المغلقة لن تمنع الرب المجروح عنهم أن يدخل إليهم ليريهم يديه و جنبه فيفرحون ( يو 20 : 20 ) . لقد فتح كوة داخلية في قلوبهم ليتلامسوا مع جراحات محبته . هكذا يمد الرب يده المجروحة خلال الكوة ليكتشف مؤمنوه سر محبته فتئن أحشاؤهم عليه . أقول , أن هذه الكوة ليست إلاجنب الرب و جراحاته , من خلالها يمد الرب يد محبته فنكشف أحشاءه الداخلية الملتهبة حبا , فتئن أحشاؤنا أيضا ) ..... أنظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخري أحبنا أولا لذا نحن أيضا نحبه .
و للكوة ذكريات خاصة وردت في العهد القديم حمل بعضها جوانب رمزية لعمل الله الخلاصي في حياة عروسه . نذكر علي سبيل المثال :
1 ـ خلال الكوة أدرك إبيمالك أن رفقة هي زوجة إسحق و ليست مجرد أختة ( تك 26 : 81 ) و هكذا خلال جراحات الرب تعلن الكنيسة كعروس للمسيح يسوع .
2 ـ خلال الكوة نزل الجاسوسان من بيت راحاب الذي بحائط السور ( يش 2 : 15 ) و خلالها نزل داود من البيت هاربا من رسل شاول و نجا ( 1 صم 19 : 21 )
خلال الكوة ننزل من كبرياء هذا العالم لنعبر أسواره و ننجو من كل مشورات إبليس .
3 ـ الكوة التي ربطت عليها حبل من خيوط القرمز ( يش 2 : 12 ) , و التي من خلالها خلصت راحاب الزانية وكل أهل بيتها إنما هي إشارة إلي جراحات السيد المسيح التي أنقذت جماعة الأمم الفاسدة , وكل أولادهم الذين دخلوا الكنيسة , محفوظين في دم الرب الثمين .
4 ـ كما كانت الكوة علامة للخلاص , فإنها حملت أيضا إشارة إلي هلاك الشر فإذ تكحلت إيزابل الملكة الشريرة و زينت رأسها بزينة العالم , ألقيت من الكوة و لحست الكلاب دمها ( 2 مل 9 ) و أخزنا الملك الشرير أيضا الذي اتكل علي بعل زبون إله عقرون وليس علي الله الحي سقط من الكوة التي في عليته التي في السامرة ( 2 مل 1 : 2 ) فمرض و مات . و في تسبحة دبورة القاضية , طلبت من أم الملك سيسرا أنم تشرف من الكوة ( قض 5 : 28 ) لتري لماذا أبطأت مركبات أبنها عن المجئ و لماذا تأخرت خطوات مراكبه ... فقد هلك هو و مركباته .
5 ـ خلال هذه الكوة تئن أحشاء المؤمنين من أجل محبة الله الخلاصية , بينما يسخر غير المؤمنين بهذه الجراحات , متشبهين بميكال ابنة الملك الشرير شاول , فإنها إذ أشرقت من الكوة و رأت الملك داود يطفر و يرقص أمام الرب احتقرته في قلبها ( 2 صم 6 : 16 , 1 أي 15 : 29 )
نعود الي العروس التي تمتعت بيد الرب التي حلت في و سطها فأدركت سر صليبه , فتحطم قساوة قلبها الحجري , وقامت لتفتح لحبيبها . لقد صرخت مع الابن الأصغر " أقوم و أذهب إلي أبي " ( لو15 ) . أعلنت شوقها لمن أحبها بالرجوع إليه خلال التوبة الصادقة و الدموع المرة و التنهدات الخاصة . لذا قالت : " بداي تقطران مرا و اصابعي مر قاطر علي مقبض القفل " يري القديس غريغوريوس أسقف نبصص [149 ] أن المر يشير إلي " الموت الذي ماته المسيح عنا " فقد تلامسنا معة بالتوبة و قبنا أن نموت معه , لكي تفتح لحبيبي , لكن حبيبي تحول و عبر . نفسي خرجت عندما أدبر ( تكلم ) طلبته فما و جدته , دعوته فما أجابني : وجدني الحرس الطائف في المدينة ضربوني , جرحوني . حفظة الأسوار رفعوا أزاري عني .
أحلفكن يابنات أورشليم ( بقوي الحقل و فضائله ) [ 150 ]
إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه ياني مجروحة [151 ] حبا ما ححبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء !!!
ما حبيبك من حبيب حتي تحلفينا هكذا " [6 ـ 9 ]
لقد قامت تفتح لعريسها بعد طول رقاد , لكن عريسها كان قد تركها و عبر . لماذا فعل هكذا ؟ إنه يؤدب الإنسان لتأخيره في الاستجابة , و في تأديبه يبدو كما لو إنه قد تركنا إلي حين .... هذا الترك في ذاته يعتبر علامة اهتمام الله بنا , وقد أعطي الأب دانيال [ 152 ] تعليلين لهذا الترك :
1 . يتركنا الله فترة قصيرة لكي نتنبه إلي ضعف قلوبنا , عندئذ ندرك أنه ما كان لنا من نقاوة قلب قبلا إنما هو عطية مجانية من قبل الافتقاد الإلهي .
2 . عندما يتركنا ينكشف في داخلنا هدفنا القلبي و نشاطنا في الصلاة باحثين عن الروح القدس , أي يكون بمثابة إمتحان لنا في المثابرة و الرسوخ العقلي و الغيرة الحقيقية . فإذا ما نلنا السعادة الروحية و بهجة النقاوة نتمسك بهذه الأمور بأكثر حرص , لأن البشر بوجه عام لا يحرصون علي المحافظة علي ما يظنون أنهم قادرون علي نواله بسهولة .
يقول الأب دانيال : [ يعرفنا داود النبي الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله يكون أحيانا لصالحنا . لذلك طلب في صلاته ألا يكون هذا الترك دائما , متوسلا إليه أن يكون لحدود معينة , قائلا : " لا تتركني كثيرا " ( مز 119 : 8 ) بمعني أخر يقول : أنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم و ذلك لامتحانهم .... لذلك فأنا لا أسال ألا تتركني , فإنه ليس من المفيد لي ألا أشعر بضعفي ) لذلك قال : و يري لي أني تذللت ( مز 119 : 71 ) , ولا من النافع لي ألا تتاح لي فرصة للحرب , فإن هذه الفرصة لن تتاح لي بالتأكيد ما دمت أمتلئ بحماية الله الدائمة . فالشيطان لا يتجاسر و يحاربني ما دمت مستندا علي حمايتك ... فأنا ألتمس منك أن تتركني لكن ليس للغاية ( اللفظ اليوناني " ليس كثيرا " ) وذلك لأنه مفيد لي أن تتركني قليلا حتى يمتحن ثبات حبي .
لقد تحدث الأب دانيال كثيرا عما نسميه بالفتور الروحي بسبب ترك الله لنا إلي حين لكي نمتحن و نحارب و نتزكى ... لكنه في الحقيقة هو ليس تركا بل إهتماما إليها , وقد شبه القديس يوحنا الذهبي الفم موقف الله بمربية تمسك بأيدي طفل , تمشي به قليلا , ثم ترفع يديها عنه فجأة حتى يتجاسر و يمشي ... تنزع يديها لكنها تبقى تتطلع إليه بقلبها و فكرها كما تترقبه عيناها , و يداها تستعدان لمساندته .
تقول النفس البشرية :" طلبته فما وجدته " , مع أنه واقف بجوارها , بل هو في داخلها , ينتظر أن يري جهادها من أجله لتقول مع يعقوب : " لن أتركك حتى تباركني ."
" دعوته فما أجابينى " , مع انه مشغول بتدبير كل الأمور لأجل خلاصي . جالت النفس في كل العالم تطلب من تحبه مع أنه كان في داخلها . وكما قال القديس أغسطينوس : [ إنه في غباوة خرج يبحث عنه خارجا في الطبيعة و الكتب مع أن الله كان في داخله عميقا أعمق من عمقه وعاليا أعلي من علوه . ] و الآن من هم الحرس الطائف في المدينة الذين ضربوها و جرحوها و حفظة الأسوار الذين رفعوا إزارها عنها ؟
1 . إذ كان المتحدث هنا هو المؤمن في كنيسة العهد الجديد , فإنه باسم الكنيسة يعاتب جماعة اليهود و قادتها , الذين يمثلون الحرس الطائف في مدينة أورشليم و المسئولين عن حفظ كلمه الله . إذ كان يليق بهم أن يكونوا خداما للكلمة و كارزين بالمسيا المخلص , لكنهم يمسكون الكنيسة و يضربونها و يجرحونها و صاروا يشعرون بها ...
إمام هذه الاهانات , لا ينحرف المؤمن عن نظره نحو عريسه , بل بالعكس يؤكد للمضايقين أنه مجروح بمحبة هذا العريس السماوي , قائلا : " أحلفكن يا بنات أورشليم ... إن وجدتن حبيبي يا ني مجروحة حبا .
هذه هي المرة الخامسة التي تتحدث كنيسة الأمم في عتاب مع جماعة اليهود هكذا :
أ . ففي المرة الأولي ( 1 :5 ) تعاتبهم لأنهم أهانوها قائلين عنها أنها سوداء كخيام قيدار , ليس لها أصل , لم تستلم الشريعة , ولا جاء منها الأنبياء ... فتجيبهم أنها و إن كانت سوداء بحكم أصلها الوثني لكنها الآن هي في حضن الأب , ضمها إليه وجملها خلال ابنه يسوع المسيح الذي جملها و صيرها كشقق سليمان .
ب . في المرة الثانية ( 2: 7 ) إذ بدأت اتحادها مع الرب الذي وضع شماله تحت رأسها و يمينه تعانقها حاول اليهود إفساد هذه الوحدة و تحطيمها , أما هي فأعلنت أنه يأتي اليوم الذي فيه يظهر الرب ويعلن حقيقة هذه الاتحاد .
ج . وفي المرة الثالثة ( 3 : 5 ) , إذ دخل العريس القبر وقف اليهود موقف الشامتين , و كأنهم يقولون : " أخرج من القبر فنؤمن بك " . أما الكنيسة فتجبيهم لا تحسبن أنه مات وزالت رسالته , لكنه هو حي قائم من الأموات يقيمني معه و يصعدني من البرية بيضاء كأعمدة من الدخان معطرة بالمر و اللبان ...خلاله ارتفع إلي الأب .!
د . و في المرة الرابعة ( 3 : 11 ) , إذ كان الحديث عن الصليب طلبت الكنيسة من اليهود أن يفهموا أنهم و هم يكللونه بالشوك استهزاء به , إنما كان يكلل كعريس للبشرية كلها في يوم عرسه و يوم فرح قلبه .
ه . هذه هي المرة الخامسة ( 5 : 8 ) حيث تعلن الكنيسة لجماعة اليهود أنه و إن مر أولادها ببعض الفتور , وصار كأن الله قد تركهم , لكن لا زالت الكنيسة حبة مملوءة حبا ... إنها تجاهد حتى ينزع الرب عنهم فتورهم .
2 . ربما يشير الحرس الطائف في المدينة إلي خدام الكنيسة , مدينة الله و يكون حفظة الأسوار هم الكارزين بالكلمة , فإن هؤلاء جميعا ملتزمين أن يختفوا وراء كلمة الله في حديثهم مع النفوس الفاترة . هذه النفوس تشعر كأنها قد ضربت منهم و جرحت وصارت في عار و خزي برفع إزارها عنها , ذلك لأن كلمة الله كالسيف الذي يبتر الشر و يطرده عن النفس . كما أنها كالمرآة تكشف ضعفات الإنسان و تفضح أعماقه ! فالضربات و الجراحات و العري هنا ليس لمضايقة النفس و التشهير بها , و أنما جراحات الحب التي تقود للتوبة الصادقة . وكما يقول الرسول بولس نفسه : " لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته " ( 2 كو 2 :2 )
علي أي الأحوال إذ ينزع الفتور عن النفس البشرية , ليس فقط تدرك عودتها إلي الأحضان الأبوية في المسيح يسوع , لكنها تشهد لقوة هذا العمل حتى أمام غير المؤمنين , الذين يتساءلون قائلين :
" ما حبيبك من حبيب , أيتها الجميلة بين النساء !
ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا ؟! [ 9 ]
إنك جميلة , ولا ينقصك شيء . فمن هو هذا الحبيب الذي تنشغلين به ؟ من هو هذا الحبيب الفريد الذي تحلفنا هكذا من أجل بقائك في اتحاد معه ؟!
لعل في هذا التساؤل نبوة عن قبول اليهود للسيد المسيح في أواخر الأيام , فإنه يأتي يدرك فبه اليهود أنهم يخطئون إذ يطلبون مملكة أرضية و مطامع زمنية , لكن الحاجة ألي خلاص أبدي و تذوق لمحبة الله السماوية .!
الحب الزوجي المتبادل :
1 . العروس تمدح عريسها .
2 . حوار الحديقة .
3 . وصفة للعروس " شولميث "
العروس تمدح عريسها
إذ يكتشف العالم في العروس حبها لعريسها و يدركون فاعلية هذا الحب في حياتها الداخلية و أنعكاساته علي ملامحها و مشاعرها وتصرفاتها , يتساءل عن هذا العريس الفريد . وهنا تشهد العروس لعريسها لا بالكلام بل بالحياة التي تعيشها , فإنها تعرفه تماما و تلمسه متحدة به , يدخل بها إلي معرفة الأب غير المنظور ... تحمل شهادة حقه و عملية فتقول عنه :
1 . حبيبي ( خليلي ) أبيض و أحمر " [ 10 ]
ما أعذب هذا المخلص العريس ففيه أجتمع اللونان : الأبيض و الأحمر , كل منهما يوضح الأخر و يكمله ! فهو أبيض , لكنه ليس بالأبيض الشاحب الذي بلا حياة كحنانيا رئيس الكهنة الذي قال عنه الرسول بولس : " سيضربك الله أيها الحائط المبيض . أفأنت جالس تحكم علي حسب الناموس و أنت تأمر بضربي مخالفا للناموس " ( أع 23 : 3 ) , فبمخافته للوصية و الناموس صار في حكم الموت بلا حياة . فقد دمه علامة الحياة و صار شاحبا كالأموات , أما مخلص الكنيسة ففي بياضه يحمل احمرارا دائما علامة كمال القوة و الحياة و الحيوية ! كذلك لا يحمل المخلص احمرارا منفردا عن البياض وألا كان في ذلك إشارة إلي القتل و سفك الدم كما جاء في سفر الرؤيا ( رؤ6 : 4 ) و كما وصفت الخطية أنها كالقرمز و حمراء كالدودي ( إش 1 : 18 ) ولكنه هو " الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة هذا البهي بملابسه ... المتكلم بالبر العظيم للخلاص " ( إش 63 : 1 )
لقد جاءت كلمه " أبيض " هنا بمعني " بهي " إذ هو شمس البر الذي أضاء علينا نحن الجالسين في الظلمة , ليدخل بنا بواسطة روحه القدوس إلي كمال نور معرفة الأب . حملنا فيه خلال بهائه في استحقاقات دمه ( الأحمر ) لنكون في حضن الأب نتعرف علي كمال أسراره . هكذا يمتزج بهاؤه بعمله الخلاصى , أي بياضه باحمراره , حتى نحمل انعكاسات بهائه فينا بدخولنا إلي أبيه .
في سفر دانيال نري لباسه أبيض كالثلج ( دا 7 : 2 ) وفي تجليه أيضا " صارت ثيابه بيضاء كالنور " ( مت 17 : 2 ) وما هو ثوب السيد المسيح غلا كنيسته التي يلتحف بها كالثوب , يسكن في داخلها . فما يحمله من بهاء و بياض يعكسه علي كنيسته كما علي السمائيين الذين في حضرته علي الدوام ( مر 16 : 5 , أع 1 : 10 ) فنظهر في السماء بثياب بيض ( رؤ3 : 4 , 7 : 9 ) , كما نوصي هكذا " لتكن ثيابك في كل حين بيضاء " ( جا 9 : 8 )
لقد تحدث الكتاب المقدس عن ظهورات كثيرة للملائكة لكنه لم يتعرض لوصف ثيابهم , أما في أحداث القيامة و الصعود فقد أكد لنا الكتاب أن الملائكة قد ظهرت بثياب بيضاء . من أجلنا ظهرت , كي نعرف أننا خلال قيامة الرب و صعوده نغتسل فنبيض أكثر من الثلج ( مز 50 ) إن كانت خطايانا كالقرمز ـ فقد دفنت في القبر ـ و أقامنا كالثلج ( إش 1 : 18 ) لهذا يقول دانيال النبي " تتطهرون فتبيضون " ( دا 11 : 35 ) هكذا تري الكنيسة عريسها فتفرح ببهائه و تبتهج بدمه ... أما العدو الشيطان فيرتعب أمام بهاء المخلص و يخاف من دم صليبه لهذا تقول الكنيسة :
2 " علم بين ربوة " [10 ]
صار معروفا للناس و الشياطين , تعرفه الكنيسة بكونه " قائم راية للشعوب " ( إش 11 : 10 ) ارتفع علي الصليب فجذب البشرية إليه ليسكب بهاءه عليها و يقدسها بالدم , تعرفه الشياطين فتصرخ : " أنزل من علي الصليب " لأنه حطم مملكتهم و أشهرهم جهارا . ظافرا بهم ( كو 2 : 15 ) .
3 " رأسه ذهب إبريز "( خالص )
قصصه مسترسلة , حالكة كالغراب [ 11 ]
إن كان الذهب يشير إلي الحياة السماوية فإن " الذهب الخالص " يشير إلي لاهوته , إذ فيه " يحل ملء اللاهوت جسديا " ( كو 2 : 9 ) . لقد أقامه الأب رأسا للكنيسة " الذي منه كل الجسد بمفاضل وربط " ( كو 2 : 9 ) إذ هو وحده كابن الله و كلمته يقدر أن يدخل بالجسد كله إلي السماء . إن كان الرأس سماويا فالجسد لا يقدر أن يعيش إلا علي مستوي سماوي ما دام الجسد متحدا بالرأس , هذا هو سر حبها لعريسها , أنه يدخل بها إلي السموات أي إلي أحضان أبيه , خلال اتحادها به .
أما شعره المحيط بالكنيسة المسترسل إنما هو الكنيسة أو كما يقول القديس أغسطينوس : [ هو جماعة القديسين الذين بمثابة شعر الرب لا تسقط منه واحدة بدون إذن أبيه ... هم يعيشون به . لهذا لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله " أسود حالك كالغراب " , لا يشيخ مؤمن بل يتجدد كالنسر شبابه
هذا هو عمل الروح القدس , الذي يهب الشركة بين الأعضاء و الرأس , فتبقي الأعضاء في كمال قوتها خلال الرأس الذي لا يضعف مطلقا .
كما أن السيد المسيح هو " هو أمس و اليوم و إلي الأبد " ( عب 12 : 8 ) , فإن كنيسته تعبر خلاله فوق حدود الزمن فلا تصيبها شيخوخة ولا تقوي عليها أحداث أرضية .!
4 " عيناه كالحمام علي مجاري المياه "
مغسولتان يا للبن جالستان في و قبيهما ( علي المجاري ) [ 153 ] " [12 ].
مع أنه الملك المرهب الذي يخيف الأعداء , عيناه كلهيب نار ( رؤ 1 : 14 ) فاحصة لدقائق الأمور و خفيايها , لكنه إذ يظهر لمؤمنيه يرون عينيه كالحمام البسيط الوديع المملوء براءة [ 154 ] . عيناه كعيني الحمامة " أطهر من أن تنظرا الشر " ( حب 1 : 13 )
يري الأب فيكتوربانوس أسقف pateu من رجال القران الثالث أن المياه تشير إلي الشعوب الكثيرة المتعددة التي جاءت إلي الله خلال المعمودية [ 155 ] بهذا فإن الحديث عن عينيه كالحمام علي مجاري المياه إنما يشير إلي تجسد الرب و إعلان بدء جيل جديد مقدس خلال عماده.
أما كونهما مغسولتان في اللبن فيشير ذلك إلي اهتمام الرب أن يقدم لمؤمنيه الإيمان الخالص غير الغاش غذاء لنفوسهم , إذ يقول القديس [ أمبروسيوس ] : يعتمد الرب في اللبن بمعني أنه يعتمد في الإخلاص , و الذين يعتمدون في اللبن هم أولئك الذين لهم الإيمان الذي بلا دنس .
أما جلوسها في و قبيهما أي استقرارهما في موضعهما إنما يشير إلي رعاية الله لكنيسته وأولاده , يركز نظره الإلهي علي كل عضو , ولا يحول عنه عينيه حتى يدخل به شركه الأمجاد . نستطيع القول أيضا بأن عيني المسيح هم كهنته وخدامه هؤلاء الذين يحملون نظرة المسيح نحو البشرية , لهم البصيرة الروحية المتفتحة بالروح القدس كما " بالحمامة " , ليدخلوا بالشعوب إلي مياه المعمودية , هناك يغتسلون من خطاياهم , و ينعمون بالإيمان غير الغاش كاللبن . يجلس هؤلاء العاملون في و قبيهما , أي لهم موضع في الرأس " المسيح " حتى يقدرون خلاله أن يتطلعوا إلي كل نفس , مهتمين بخلاص الجميع . أما تشبيههم بعيني المسيح فهو تشبيه كتابي , إذ عرف النبي في العهد القديم بالرائي ( عا 7 : 12 ) , إذ يستطيع النبي بروح النبوة أن يري ما لا يستطيع الشعب أن يراه . وكان يلقب أحيانا بالرقيب ( حز 3 : 17 , 23 : 7 ) يقف علي البرج ليري إن كان هناك أعداء فينذر الشعب .
5 " خداه كخميلة ( سلطانية ) [ 156 ] الطيب واتلام ) تفيض رباحيين ذكية [13 ]
خدا السيد المسيح اللذان يشيران إلي طلعته قد تعرضا للهزء و الاحتقار كما جاء علي لسان إشعياء النبي : " بذلت ظهري للضاربين و خدي للناتفين , وجهي لم أستر عن العار و الخزي " ( إش 50 : 6 ) ... هذا الوجه الذي لم يحاوله الرب عن بصاق الأشرار ( مت 27 : 3 ) , تراه الكنيسة يحمل دلائل الحب الباذل فتشبه بخميلة طيب أي مجموعة من الشجيرات المتشابكة التي تفتح رائحتها طيبا , و بأتلام ( باقات ) رياحين ذكية , تشتمها النفس رائحة حياة .
6 " شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا [13 ]
تحدثنا قبلا عن العريس كسوسنه البرية . و أنه بالاتحاد معه يصير المؤمنون أيضا سوسن . أما هنا فشفتا العريس تشبهان بالسوسن ( زنبق ) .... فماذا يعني هذا ؟
يشير السوسن إلي المجد الملوكي , إذ يتحدث عنه الرب قائلا : " ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها " ( مت 6 : 29 ) فشفتا السيد المسيح تعلنان تعاليم مجيدة , أو بمعني أخر تقدم كلمة الحياة القادرة أن تدخل بالمؤمنين إلي الحياة المجيدة الأبدية . لهذا يقول عنه المرتل :" انسكبت النعمة علي شفتيه " ( مز 45 : 2 )
هاتان الشفتان تحملان رائحة طيب عطرة تقطر كالمر . وقد وصف الإنجيليون الكلمات الخارجة منهما هكذا : " لم يتكلم إنسان مثل هذا قط " ( يو 7 : 47 ) " كان الجميع يشهدون له يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه و يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ " ( لو 4 : 22 )
أما و صفها بأنهما يقطران مرا ممتزجا بالميعة إنما يعني أن كلماته ممتزجة بالدخول في مرارة ألامه و الدفن معه إذ كفن بالميعة .... كل من يسمعه يشتهي الدخول معه في شريكة ألامه و الموت معه . كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص [175 ] : [ يفيض المر من جسده و يملا نفوس من قبلوه و هذا رمز واضح عن إماتة الجسد ] ...
يري القديس غريغوريوس أيضا أن هذا الفم الذي يفيض سوسنا و مرا مائعا إنما يمثل الرسل و الذين هم فم الرب , يشهدون بكلمة إنجيله التي هي السوسن , و يدخلون بالمؤمنين إلي المر المائع أي الأمانة في المعمودية أو الدفن معه لينالوا قوة قيامته . فالرسول بطرس أفاض بسوسن بهي ـ الذي هو الكلمة ـ في البيت كرنيليوس , مالئا نفوس سامعيه بالمر . إذ دفنوا مع السيد المسيح في المعمودية , و صاروا أموات عن العالم .
7 " يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد " [14 ]
تشير " الحلقة " أو الدائرة " إلي الأبدية . لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية . يداه أبديتان , تشبعان النفس و الجسد معا إلي الأبد . أما كونهما من ذهب فإشارة إلي سمتها السماوية ... فهو يمسك بعروسه و يدخل يدها في يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته و إمكانياته السماوية , لتعبر معه إلي السماء .
أما الزبرجد فقد ورد مرارا في العهد القديم ( حز 1 : 16 , دا 10 : 6 ) , ليشير إلي قوة التأسيس .... إذ " أعمال يديه أمانه و حق " , تؤسسان عروسه علي الإيمان الراسخ و الحق .
8 " بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق [ 14 ]
تشير البطن أو الأحشاء إلي مشاعر الله العميقة المملوءة حبا و حنانا كما جاء في إرميا : " حنت أحشائي إليه رحمة أرحمه يقول الرب " (ار 21 : 20 ) . أما كون هذا الحنان كالعاج الأبيض , فذلك لأن العاج يأتي كثمر للألم إذ ينزع من الفيل خلال آلامه حتى الموت . و أما كون أحشاؤه مغلقة بالياقوت الأزرق وهو لون سماوي , إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيا مؤقتا بل سماوي أبدي .
9 . ساقاه عمودا رخام مؤسستان علي قاعدتين من إبربز ( ذهب ) " [ 15 ] تشير الساقان إلي القدرة علي السير بثبات , و أما الذهب أو الإبربز فيشير إلي الطبيعة السماوية . و كان من يتحد قدميه كل قوي إبليس , محطما الموت و قاهرا الخطية .
و للقديس أمبروسيوس تعليق جميل علي هذه العبارة , إذ يقول : [ ساقاه عمودا رخام مؤسستان علي قاعدتين من ذهب , لآن المسيح يتمشى في النفوس , و يجعل له طرفا في أذهان قديسيه , فيكون فيها كما لو كانتا قاعدتين من الذهب و أساسات من الحجارة الكريمة طبع عليها أثار قدمي كلمة الله السماوي .
10 " طلعته كلبنان . فتي كالارز [ 15 ]
لبنان منطقة سياحية جميلة يلجا إليها بعض المتزوجين حديثا لبدء حياتهم الزوجية في جو جميل , هكذا فإن وجه الرب يسوع بما يحمله من بشاشة و حنان يفرح النفس التي تريد أن تعيش في الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهي . لقد وصف المرتل المسيا قائلا " أبرع جمالا من بني البشر " وجاء في التقرير الذي كتبه بيلاطس البنطى لهيرودس عن السيد المسيح " تشتهي أن تتطلع إليه . "
أما سر جماله فيمكن في كونه " فتي كالارز " المعروف بطوله الشامخ مع استقامته و رائحته الذكية .... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتي الذي لا يشيخ قط .
و العجيب أن الرب في تنازله حمل ناوستنا مشاركا إيانا كل مراحل نمو ما عدا الشيخوخة , صار جنينا مع الأجناء . وطفلا بين الأطفال , و صبيا و شابا فرجلا لكنه صعد قبل الشيخوخة , إذ لا يليق به أن يشيخ , حتى لا تحمل كنيسته روح العجز و الشيخوخة الروحية فقد جاء في الوحي الإلهي : " يتحدد مثل النسر شبابك " ( مز 103 : 5 ) . وجاء في الطقس الكنسي عن الكنيسة و عن العذراء مريم بكونها العضو الأمثل في الكنيسة : " الكرمة التي لا تشيخ ..."
المسيحي لا يعرف الشيخوة مطلقا , بل يزداد مع الأيام شبابا , فإنه و أن كان إنسانه الخارجي يفني لكن الداخل يتجدد يوما فيوم ( 2 كو 4 : 16 ) , وكما يقول الرسول بولس : " لبستم الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه " ( كو 3 : 10 ) حقا إن الجسد يضعف وقد يشيخ لكن الروح يبقي نشيطا و قويا ( مت 26 : 41 , مر 14 : 38 )
11 . " حلقة حلاوة وكله مشتهيات
هذا حبيبي و هذا خليلي يا بنات أورشليم " [ 16 ]
يقول المرتل : " ما أحلي قولك لفمي , أحلي من العسل لفمي " ( مز 119 : 103 ) ههكذا يجد المؤمن في كلمات السيد عذوبة خاصة و حلاوة , لآن هذه الكلمات هي روح و حياة . من يأكل منها يرجع إلي السيد جائعا إليه , ومن يشرب منه يعطش بالأكثر إليه ..
إذ ينصت الإنسان لكلمات الرب ينسحب قلبه في شوق أعظم نحو التعرف علي هذه الأسرار الإلهية , و يبقي حياته كلها جالسا عند قدمي الرب لا يريد مفرقته , قائلا مع المرتل : " لكل كمال وجدت حدا أما و صاياك فواسعة جدا" ( مز 119 )
سر حلاوة كلماته أنها تحمل قوة و سلطانا , فلا يعطي مجرد وصايا أو نصائح وإرشادات أو تحذيرات , لكنه يعطي مع الكلمة قوة التنفيذ , فترتفع الوصية بالإنسان ليدخل إلي معرفة أسرار السموات , و تنطلق النفس من مجد إلي مجد , تحمل باستمرار سر قوة جديدة لا تنتهي .
أخيرا , إذ تشعر العروس بعجز اللغة عن و صف عريسها تقول : كله مشتهيات " . هذا هو حبيبها الصديق الذي تطلبه و تسعي إليه ... إنه مشبع لها , فيه تجد كل حبها و إليه كل اشتياقها !
wageh- المساهمات : 138
تاريخ التسجيل : 27/07/2011
مواضيع مماثلة
» في البيت المسيحي المشاكل الزوجية و الطريق ألي الطلاق !!
» احذر فيروسات الحياة الزوجية
» العلاقات الزوجية .... والأفلام الإباحية
» سياسة المحترفين في السعادة الزوجية
» الأجازة الزوجية ضرورة ... أم رفاهية؟
» احذر فيروسات الحياة الزوجية
» العلاقات الزوجية .... والأفلام الإباحية
» سياسة المحترفين في السعادة الزوجية
» الأجازة الزوجية ضرورة ... أم رفاهية؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى